خصصت الروائية الجزائرية الشهيرة أحلام مستغانمي كتابها -نسيان- لتقديم النصائح لنساء خضن تجارب عشقية إنتهت بهن ومن أحببن على مفترق طرق، وحشدت في الكتاب كل ما أمكنها ذكره من وسائل مقترحة للتشافي من فقد عشيق عالقٍ في الذاكرة.. وفي جمعها المستقصي يفاجأ القارئ بعدم إنسجام الوسائل مما يشي بإضطراب رؤية المؤلفة، ففي حين تقدم نصيحة بعنوان: صلّي ففي سجود قلبكِ نسيانه- والتي صدرتها بمقولة: من كان الله معه فما فقد أحدا ومن كان الله عليه فما بقي له أحد، تقترح وسيلة أخرى غامضة وصارخة الرمزية تحت عنوان: أقصر طريق للنسيان ألمحت فيها لـ أم النصائح والتي صدرتها بعبارة د.ج. ويلز: إن الحب يهبط على المرأة في لحظة سكون مملوءة بالشك والإعجاب ألمحت فيها لإكتفاء المرأة بذاتها داعية لإكتشافها على طريقة أرخميدس وملوّحة بكلمات نزار حول خوف الجسد العربي من رؤية نفسه عاريا في المرآة لئلا يقع في إشتهائه!
مستغانمي التي ذكرت في رواياتها بأن الحب -إحتياج/إجتياح- والتي تُعلي في الحب من شأن الجسدي على حساب الوجداني حتى إن إحدى بطلات رواياتها مارست الحب بل واقعت الفاحشة مع شخص لا تعرفه بل لا تعرف حتى إسمه، ترى أن هذه النصيحة ستلغي الضرورة لكل ما جاء في الكتاب الذي وضعته للصابرات والعاقلات من النساء، كما ذكرت أنها قدمت هذه النصيحة نظرا لواقعيتها وهروبا من إتهام الأخريات لها بإسداء نصائح مثالية، وقلق رؤيتها التي تطرح ثنائية -المثالية/الواقعية- بين الجانبين الروحي بالتعلق بالله والجسدي بالإشباع الذاتي للحاجات الغرائزية هو نموذج للتهجين الثقافي بين ثقافة إسلامية تحتفي بقيم التقوى والعفة والحياء وترفض هذا النوع من الإشباع، وبين ثقافة غربية ترفع شعار الحرية المطلقة والمغرِقة في إشباع حاجات الجسد دون أي ضابط أخلاقي.
والتخليط القيمي الذي مارسته مستغانمي ومازالت تمارسه بأشكال متعددة في كتاباتها ما هو إلا صورة شبيهة لصور أخرى من التهجين الثقافي الماثل في محاولة التأليف بين قيم متخالفة ومتناقضة حد التنافر.
وما نشهده حاليا من عولمة القيم الغربية يتجاوز التهجين الثقافي إلى (التسوية الثقافية) والتي وصفها طه عبدالرحمن في كتابه -الحق العربي في الإختلاف الفلسفي- بأنها: تسليط نمط فكري واحد على جميع الثقافات المختلفة بقوة السلطان لا البرهان.
وما تدعيه المواثيق المُعولمة للثقافة الغربية من إحترام الثقافات الأخرى والسعي للحفاظ على الخصوصيات الثقافية وفقا للفكر الليبرالي المحترم للتعددية الثقافية، تنقضه محاولات فرض القيم الغربية بقوة الإلزام، مما يؤكد مقالة روجيه جارودي في كتابه -نداء جديد إلى الأحياء- حول كراهية الغرب للإختلاف الحضاري وعدم قدرته على تقبل هذا الإختلاف والسعي لإزالته بكل السبل.
والحملة التي أطلقتها منظمة العفو الدولية تحت شعار: إنه جسدي، إنها حقوقي، والتي تدعو لتمكين الشابات والشباب من إتخاذ قراراتهم الخاصة بأجسادهم وحياتهم الجنسية ونادت فيها المنظمة عبر صفحات موقعها الالكتروني بتخليص النساء والفتيات من وصمة العار والتمييز المعارض لمبدأ المساواة والذي ينتهك حقوقهن الجنسية، هذه الحملة تندرج في نفس السياق العولمي الساعي لفرض رؤية للجسد تختلف عن رؤية الثقافات الأخرى له وعلى رأسها الثقافة الإسلامية، ورغم أن مفهوم إمتلاك الجسد وحرية التصرف فيه يعود لعصر النهضة الأوروبية بحسب ماذكره دافيد لو بروتون في كتابه: انثروبولوجيا الجسد والحداثة بقوله: مثّل الجسد مع إنبثاق مفهوم الفردية في عصر النهضة ملكية.
رغم ذلك فإطلاق العنان لرغبات الجسد وشهواته ذا جذور عميقة في الفكر الغربي، وإستنادا لتاريخ الأفكار فالتصور الغربي للجسد توزع بشكل رئيسي بين إتجاهين مختلفين ومتناقضين فيما بينهما، ومنذ فلاسفة اليونان والعلاقة بين الجسد والروح قائمة على الثنائية ومترددة بين رؤيتين، إحداهما: تحتقر الجسد كما نُسب لسقراط وأفلاطون، والأخرى تُمجد الجسد كما كان الحال مع فلاسفة الأبيقورية والرواقية..
ولم يترك موقف أرسطو الذي إنتقد الثنائية بين الروح والجسد بإعتبارهما وجهين لشيء واحد ولا يمكن الفصل بينهما أثرا كبير في الفكر الغربي، وتداولت هاتان الرؤيتان التأثير في الفكر الأوروبي على تفاوت بينهما في سيطرة رؤية وإزاحة أخرى عبر مراحل وسياقات زمنية وثقافية مختلفة، فكانت السيادة في زمن الفلسفة المسيحية للرؤية التي إحتقرت الجسد وحاجاته الدنيئة وإمتد إحتقارها له لإحتقار المرأة مكمن الخطيئة وباعثها، وإستمر الأمر كذلك حتى عادت الرؤية الممجدة للجسد فيما بعد لتحتل مكانة مرموقة في لدى فلاسفة العصور الحديثة وأثرت في التصور الغربي الحديث، ودالت السيطرة أخيرا لهذه الرؤية المتمركزة حول الجسد والداعية للإشباع بعيدا عن كل قيد مع نيتشة، وأخيرا مع فوكو الذي إعتبر الأسرة والزواج والمدرسة وآداب السلوك مؤسسات سلطوية تقيد الجسد وتحد من ميله الطبيعي للفوضوية والمتعة والإبداع ورأى في هذا إنتصارا للفكر على الجنس، وللثقافة على الطبيعة.
ومع بروز هذا التصور لدى الغربيين أصبح الجسد عامل تفرد يضاعف إشارات التميز ويباهي على طريقة من يروج لشيء، كما يقول دافيد لو بروتون والذي ربط بين بروز هذا التصور وبين تراجع تأثير الدين في صياغة تصورات الإنسان الغربي: الإنسان الكوني بدأ يستمد التوجه النسبي كليا لتأثيراته على العالم من معتقداته الشخصية، إن الطرق المظلمة للعناية الإلهية لم تعد هي التي تستطيع أن تقرر حياته الخاصة أو حياة مجتمعه فهو يعلم من الآن فصاعدا أنه هو نفسه الذي يصنع قدره ويقرر الشكل والمعنى اللذين يمكن أن يأخذهما المجتمع الذي يعيش فيه إن الانعتاق من الشأن الديني يؤدي إلى وعي المسؤولية الشخصية.
وأدى هذا التصور للإنقطاع بين الجسد وصاحبه، بإعتبار الجسد مجرد ملكية لصاحبه ويختلف عنه، كما يقول ديكارت في التأملات: سأعتبر نفسي أولا أن لدي وجها ويدين وذراعين، وكل هذه الآلة المؤلفة من عظم ولحم كما تبدو جثة أعطيها إسم الجسد.
كما أدى هذا التصور للإنقطاع بين الشخص والآخرين، وبعبارة دافيد لو بروتون: إن جسد الحداثة الجسد الذي نجم عن تراجع التقاليد الشعبية وقدوم الفردية الغربية يدل على الحدود بين شخص وآخر وعلى إنغلاق الشخص على ذاته.
وبإعتبار الجسد ملكية لم تجد المرأة الغربية حرجا في إظهار مفاتن جسدها والتباهي بها إنطلاقا من العبارة النسوية الشهيرة: مادمتِ تملكينه فلماذا لا تباهين به!.
ونتيجة لهذا التصور أصبح تسليع الجسد وإستغلال خدماته بالدعارة وما شابهها أمرا غير مستنكر، بل شكلا من أشكال التصرف الحُر بالملكية الفردية، وظهرت أشكال من الممارسات الجنسية العابرة -الكاجوال- والجنس المتعدد مع أكثر من شريك، وإنفصل الجنس عن الحب وتحول لنشاط ترفيهي فارغ من المعنى ولا يختلف كثيرا عن تناول وجبة أو مشروب بدوافع غرائزية بحتة لا تشترط الحضور العاطفي.
وبالمقابل فلم يعرف خطاب الوحي في الإسلام الثنائيات المتضادة التي يعاني منها الفكر الغربي بين الروح والجسد، والمثالية والواقعية، والفردية والجماعية، والمرأة والرجل، ففي التردد بين المثالية والواقعية حسم التوجيه النبوي الصراع العملي بينهما بقوله عليه الصلاة والسلام «سددوا وقاربوا»، ولم تكن حاجات الجسد مرذولة بحال بل كانت وسيلة وقربة إلى الله «وفي بضع أحدكم صدقة»، شريطة أن يجعلها المرء في مسارها الشرعي الصحيح ولا يُصبح عبدا لشهواته الجامحة والمتفلتة من كل ضابط، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر».
فالتصور الإسلامي للجسد -أو الجسم بالإصطلاح القرآني الدقيق- منبثق عن الوحي الإلهي المعصوم والصادر عن عليم حكيم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك:14]، وحيٌ محفوظ من التبديل والتحريف ومتسم بخصيصة الثبات فلا تزعزعه أهواء النفس البشرية ولا تبطله تصوراتها المتقلبة والقاصرة، وتصوغه مبادئ متضافرة أبرزها:
مبدأ الوسطية في تقدير مكانة الجسد، وإشباع حاجاته الفطرية فلا غلو ولا إحتقار، ولا إنكار للواقعية الفطرية ولا سقوط في البهيمية الغرائزية، بل إشباع منضبط لمختلف حاجات الجسد التغذوية والجنسية، ودون إنبتات بين الجوانب النفسية والجسدية، كما في قوله سبحانه: {وكلوا واشربوا ولاتسرفوا} [الأعراف:31]، وقوله: {يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير} [الأعراف:26]، وقوله: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم} [البقرة:223]، وقوله: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة:187].
ومبدأ المسؤولية، المتمثل في مسؤولية الإنسان عن كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال كما في قوله سبحانه: {كل امرئ بما كسب رهين} [الطور:21]، وقوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء:36]، فهو مسؤول عن حركات جوارحه وعن سلوكه التغذوي أمِن حلال أو حرام، وعن كل ما يضر بجسده أو يؤدي لإتلافه، والسلوك الجنسي ليس سلوكا عابرا بل سلوك مسؤول يتم عبر علاقة محترمة ومسؤولة كما في قوله سبحانه: {وأخذن منكم ميثاقا غليظا} [النساء:21].
ومبدأ الحكمة الماثل في عدم التسوية بين قدرات الرجل والمرأة الجسدية، فإباحة تعدد الأزواج للرجل دون المرأة -على سبيل المثال- تستند لحقائق طبيعية تتصل بالتكوين الجسدي للمرأة وتنعكس آثارها على صحة المرأة ذاتها كما تنعكس على المجتمع، فحرية تصرف المرأة بجسدها بناء على إمتلاكها له وتصديقها للرسائل التطمينية التي تبثها الدعاية الغربية المضللة للجنس الآمن تصطدم بالهشاشة البيولوجية -الطبيعية- لجسد المرأة كما تقول كاري إل. لوكاس مدير السياسات ونائب الرئيس لمنتدى المرأة المستقلة وعضو الحزب الجمهوري في كتابها خطايا تحرير المرأة: يعكس الواقع أن الأمراض المنتقلة جنسيا ليست حيادية تجاه النوعين فالنساء أكثر عرضة لإلتقاط الأمراض المنتقلة جنسيا من الرجال الذين يعاشرون النساء فقط...فالمرأة أكثر عرضة لالتقاط فيروسhiv بثماني مرات مقارنة بالرجل، كما أنها أكثر عرضة بمعدل أربع مرات لالتقاط السيلان من لقاء جنسي واحد مقارنة بالرجل، والنساء أيضا أكثر عرضة للإصابة بتبعات مستدامة للأمراض المنتقلة جنسيا، مثل العقم والسرطان، ومع ذلك فثلث النساء فقط على وعي بمدى هشاشة المرأة بيولوجيا أمام الأمراض المنتقلة جنسيا والتي توجد لها تبعات تفوق المخاطر الجسمانية إذ قد تكون مدمرة نفسيا خاصة للشباب والفتيات.
وهذه الحقائق الواقعية تشهد لتميز التصور الإسلامي للجسد وإنسجامه مع العقل والفطرة اللذين يتردد صداهما من وقت لآخر في الغرب رغم ما تعرضت وتتعرض له الفِطر هناك من تشويه إجترحته مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة وعمّقته بسيطرتها الإجتماعية، فكما يقول دافيد لو بروتون: إن مفهوم الفردية إتجاه مسيطر أكثر مما هو حقيقة جوهرية من حقائق مجتمعاتنا الغربية.
وما يحدث بالفعل أن هذا الإتجاه لم يعد يرضى بالسيطرة على المجتمعات الغربية وحسب بل إمتدت أذرعته الإعلامية والسياسية والثقافية لمساحات أخرى من العالم في محاولة حثيثة لإستئصال الإختلاف الثقافي بين أمم الأرض، وفرض نموذج ثقافي واحد هو النموذج الغربي بصيغته -الما بعد حداثية- تحديدا والتي أسست كما يرى عبد الوهاب المسيري في اللغة والمجاز لنمط العلاقات المنفتحة تماماً كإنفتاح النص المابعد حداثي.. والذي إنتهى بإسقاط مفهوم الإنحراف من علم النفس الغربي بحيث أصبح كل شيء تقريبا مقبولا، وأصبح من المستحيل الحديث عن إنسان سوي وآخر شاذ، بل ولا عن طبيعة بشرية تتسم بالثبات.. وهذا يشكل سقوطا كاملا في قضية الصيرورة!.
الكاتب: أ. ملاك إبراهيم الجهني.
المصدر: موقع المستشار.